بينما كنت غارقاً في التفتيش عن مقالات كتبتها ورقياً، ولم ترَ النور الكترونياً، وجدت هذا المقال بعنوان: "القصيدة التي كتبها ولم يكتبها فؤاد نعمان الخوري" نشرته في جريدة "صدى لبنان"، العدد 622، 29/11/1988، وأليكم ما كتبت:
"قبل أن أخبركم قصّتي مع ديوان فؤاد نعمان الخوري "بين تذكرتين" سأنقل اليكم كلمة الاهداء التي خصّني بها، لتدركوا سر "تشرقطه" السريع في هذه الجزيرة البعيدة، وكيفية تعامله مع زملائه:
"الى الصديق الشاعر شربل بعيني، الذي رفع اسم الأدب اللبناني الى مصاف الاسماء العالمية، ومهّد الطريق للكتابة والطبع في هذه الجزيرة المعلقة "بكعب الأرض".
وصدّقوني ان هذا الكلام اعادني بالذاكرة الى ماضي اثنتي عشرة سنة، يوم قررت طبع ديوان "مجانين" عام 1976 في استراليا، وكيف طار صوابي عندما اكتشفت ان عامل المطبعة قد احدث مجزرة في ارقام الصفحات بعد جمع الكتاب وتكبيسه، ودفع تكاليفه كاملة. وهات يا سهر، ويا تصحيح، ويا أدب!.
من عادتي، وأنا أطالع ديواناً شعرياً، أن أدوّن الصور المضيئة فيه على ورقة صغيرة، كي ازرعها فيما بعد في خلايا الكلمة التي سأتناول بها الديوان.
ولكم كانت دهشتي عظيمة عندما اعدت قراءة الابيات التي انتقيتها من ديوان "بين تذكرتين" للشاعر فؤاد نعمان الخوري، ووجدتها تكوّن، بعفوية بالغة، قصيدة شعرية متينة السبك، مبتكرة القصة، وذات صور شعرية قلّما تزينت بها قصيدة واحدة، أو "شبرأت" شبابها.
كيف حدث ذلك.. لست أدري؟
كل ما ادريه، هو انني لم أكتب حرفاً واحداً في هذه القصيدة، كما ان الشاعر فؤاد نعمان الخوري، الذي نزف ابياتها في أكثر من عشرين قصيدة، سيقرأها باستغراب شديد، وقد "يعقد" ما بين جفنيه ويصيح: ما هذا يا شربل؟
وبالطبع، فسأجيبه وضحكتي تفقع مثل قنينة شمبانيا نقفوا فلينتها: الحق ليس علي يا فؤاد، بل على ما تضمنّه ديوانك من ومضات شعرية خلابة، ابت ان تتشرذم وتتيتم اثر انتقائي لها، فاصطفت، وتوحدت، وتقولبت في قالب قصيدة اسميتها "قومي افتحيلو":
ـ1ـ
لمن بيكون الليل قمريه
ووحدك مسرّب من السهريه
بتسمع ضرب معدور بالوادي
وسحبة عتابا وصوت قرّادي
واللوز والتفاح ردّاده
.. وفي صبي تاكي على التسعين
طالع على صنين
وتعمّد بحالو
ما ضوولو شمع.. قالوا:
مجنون عم يلعب مع خيالو
شاف القمر
دبوس عم يلمع بشعر الليل
ومن يومها حب القمر والليل
ولملم الكلمات وعمل فرقه
تا يقاتل خيالو على الورقه
ولمن كتب سطرين
زتّ حالو بين الهلالين
"قومي افتحيلو: مدنّق من البرد
وطالع خواتو
قومي افتحيلو: كل تلج الجرد
عقّد ع ديّاتو"
ـ2ـ
وطل بعد غياب
والحزن مزراب
وزيّح بطبشورة تلج ع الباب:
ـ كان الشتي شبيني
والعاصفه الزينه
والخاتم
جنون الختم ع صفحة جبيني
وبالبال
جبنا طفال
شلطوا عيونن كلل تا يلعبوا
وعم ياكلو خبز الخيانه ويكتبوا
وانطرت تحت السما جمعه بعشر سنين
موعود فيهن يجوا لعندي قبل تشرين
وصرخت لما التلج شفّق مع كوانين:
يا تلج طفّي اللهب بقلوب محرومه
وقلّن ع كتر السهر رح تنعس نجومي
وكلما قعدت اكتب شعر عند الغياب
ولا اهل لا اصحاب
متل المسا الراجع على الغابات
ازرع عيونك بالحقول
واحصد الخيبات من كل الفصول
ـ3ـ
قومي افتحيلو..
سكران، تحت الشتي عم يحسب قداحو
والدرب ملعب عريض بتلمع زياحو
وحزنك شتي تاني
وحزن الشتي عيانه
بكرا القمح بيطلع
بحقول الغناني
والشوق عمرو سنه وعمر المحبه نهار
وبينك و"بينو" سهر ومعاتبه واشعار"
ـ4ـ
قومي افتحيلو..
كان راعي بزغرتو
والمدرسه ما نطرتو
عليه غبار من هاك الحفافي
بيمشي كتير.. ما بعد المسافه
عصفور الحقاله
حلمو عريشه ما لها سقاله
وورد الطفوله لحاف ابيض ما انغسل
جيتي وختمتي العمر بالشمع العسل.
ـ5ـ
قومي افتحيلو..
اليوم صار يعنّد الشروال
ويغبشو عيونو
وعم يسرج حصان السفر خيّال
تلجت على جفونو.
والآن، بعد ربع قرن، من قراءتي لذلك الديوان، اسمحوا لي أن أرفع كأسي عالياً وأهتف: كاسك يا بو طوني.
**